السبت، 1 نوفمبر 2014

المطبعة



المطبعة
وقف عم (صالح) امام الة الطباعة الوحيدة التى بقيت فى المطبعة وتوقف معه الزمن فلم يشعر بشىء من حوله ولم يشعر بمحتويات المطبعة التى يحملها عدد من العمال للخارج لم يشعر باى شىء على الاطلاق سوى الالم وكأنه ضرب بألف خنجر فى قلبه لم تطاوعه قدماه ليظل واقفا وبدا يتخبط فلمحه العمال فىأشفقوا عليه ليسرع احدهم بوضع كرسى خشب امام الالة ليتمتم عم (صالح) بكلمات غير مفهومة حاول اخراجها لكى تكون عبارات شكر فعاد كل شخص الى عمله فى نقل ما تبقى فى المطبعة للخارج بينما تحسس عم (صالح) الة الطباعة فى شجن فمنذ التحاقه بالعمل فى المطبعة من ستين عاما كان سنه وقتها لم يتجاوز الثمان سنوات كان يشعر بان تلك الالات يمكنها الشعور بها فدائما ما كان يتحدث معها ويشكو لها ويفرح معها وكان يشعر بان تلك الالات تبادله نفس الشعور فشعر بان الالات فرحت معه عند زواجه وانها بكت معه عندما توفى (جمال عبد الناصر) وانها طارت من السعادة عندما انتصرت القوات المصرية على جيش العدو وان دموع نزلت منها فرحا مثله عندما رزق بولده الاول وعند انتهاء العمر الافتراضى لاحدى الالات ويتم تكهينها كان يرثاها ويكاد يبكى عليها ويودعها كما يودع صديق قديما الى مثواه الاخير نظر فى ارجاء المطبعة لطالما شهدت تلك المطبعة الكثير فيتذكر قيامه مع اخرين وهو صبى صغير بطباعة المنشورات سرا التى تندد بالاحتلال الانجليزى وتدعو جموع الشعب المصرى للوقوف ضد المحتل وعقب ثورة 1952 وطباعة منشورات لشد ازر الفدائيين فى (بورسعيد) قام بطباعة الايات القرانية والانجيل وتعلم بحق فى تلك المطبعة وتثقف من ما طبعه بيده اكثر من اى خريج جامعة فقرأ اشعار (نزار قبانى) وحفظها واهداها لزوجته وحبها بتلك الاشعار وحفظ اشعار (احمد فؤاد نجم) وبدأ فى طباعتها سرا حتى لا تقع فى ايدى الجهات الامنية وقت منعها،ذاب فى حوارى نجيب (نجيب مفوظ) وعشق ادبه وفهم الاتجاهات الاقتصادية المختلفة فهم الاشتراكية وعرف بالفرق بينها وبين الراسمالية وقرأ فى السياسة تعلم ما معنى حكم الشعب واستطاعت المطبعة ان تجعله يدرك كل ما يقوله المثقفون من حوله وان يتناقش معهم وان يكون عقيدته الخاصه،فقال لنفسه:
-من المستحيل بعد كل ذلك ان تكون تلك المطبعة مجرد مكان لاقتيات الرزق هنا جامعة حقيقية هنا،من المستحيل ان تكون مجرد الات صماء انها شهدت التاريخ وصنعت جزء منه.
فالمطبعة كانت حياته حتى فى السنوات الاخيرة عقب انتهاء عمله بالمطبعة كعامل بسبب السن لم ينقطع عن الذهاب اليها فكان يذهب اليها يوميا بعد ان قام صاحب المطبعة بتعيينه مشرفا عاما على المطبعة كمنصب شرفى لرجل عمره من عمر المطبعة بالرغم من اصرار ابناء على ان يستريح فكان يردد دائما:
-مقدرش اسيب المطبعة هنا بيتى وهموت فيها.
حتى وصل بشريط ذكرياته الى اخر جزء واصعب جزء حين توفى اخر من كان يقدر المطبعة ويعلم بقيمتها فى العائلة التى تملكها فقرر وريثه ان يبيعها ليقرر المشترى ان يحيل المطبعة الى ملهى ليلى، وبعد ان انتهى العمال من نقل كل ما فى المطبعة لم يبق الا الالة التى جلس عم (صالح) امامها فأقترب منه احد العمال فى تودة ووضع يده على كتفه وقال:
-بعد اذنك يا عم (صالح) مش ناقص غير الالة؟
فأشار (صالح) صامتا ووضع يده على الالة ومرر اصابعه عليها كأنه يودعها الوداع الاخير ليحملها العمال فنظر حوله الى المكان الخالى ودارت عيناه فى ارجاء المكان حيث يبتسم عندما تقع عيناه على احد الاركان التى كانت له فيها ذكرى والمكان الذى كان يتجمع فيه مع باقى العمال لتناول الافطار، وبعد لحظات شعر بان الارض تدور من حوله ليسقط ارضا غير شاعرا بشىء فقط تجمع عدد من حوله ليسمع فقط احدهم يقول:
-لاحول ولا قوة الا بالله الراجل مستحملش بيع المطبعة ومات.
وكان اخر ما سمعه قبل ان تصبح الدنيا ظلاما من حوله ويغادر عالمنا:
-ان لله وانا اليه راجعون.
تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق