الجمعة، 27 فبراير 2015

فى رحلة مع ابى فراس الحمدانى



فى رحلة مع ابى فراس الحمدانى

تركت زمنى فى القرن الخامس عشر الهجرى وعدت الى القرن الرابع الهجرى لاسير فى شوارع (حلب) ابحث عن شخص بعينه اتفرس الوجوه التى تمر من حولى ولكنى وعيت لحقيقة مفزعة وهى انى لا اعرف من ابحث عنه بل اعرف مجرد اسمه فقط،فأستوقفت احد المارة وسالته:
-أين اجد (ابى فراس الحمدانى)؟
نظر الرجل لى فى دهشة وقال:
-الا تعرف اين تجد الامير (ابى فراس الحمدانى)؟
فنظر خلفى واكمل:
-ها هو ياتى خلفك يبدو انه متجه الى قصر ابن عمه الحاكم (سيف الدولة الحمدانى)
فشكرت الرجل واستدرت لانظر للرجل فى رهبة واجلال فوجدته ذا جسد فارس لا يشق له غبار ووجه مستدير ذو شارب ولحية متناسقتان وعينان تنمان عن الذكاء واحكم رباط عمامته على راسه فوجدته يسير بمفرده دون اى حرس فلم اصدق نفسى فقلت له بلهجة لم تخلو من التساؤل:
-الامير (ابى فراس)؟
فتوقف وسألنى باهتمام:
-هل لديك مظلمة ايها الشاب؟
- لا ياسيدى بل ارغب فى التحدث اليك.
- بأى شان؟
لم اصدق انى اتحدث الى الشاعر والفارس والامير (ابى فراس الحمدانى) فقلت:
-بشأنك فأنى قد اتيت من بلاد وزمان اخرين لمقابلتك.
لم يدرك (ابى فراس) معنى انى من زمان اخر ولكنه صحبنى فى تواضع وقال:
-يمكننا ان نتحدث كما تريد اثناء سيرنا الى قصر ابن عمى (سيف الدولة) ولكن لا ترهقنى فى الحديث لانى اريد ان يكون ذهنى صافيا من اجل المناظرة المرتقبة مع ذلك المدعو (المتنبى).
فتوقفت فجاة رغما عنى ورددت فى دهشة:
-المتنبى (ابو الطيب المتنبى).
- نعم.
فقلت لنفسى غير مصدقا:
-سأشهد مناظرة بين اباطرة الشعر (المتنبى) و(ابى فراس).
فقال (ابى فراس) فى ضيق:
-هذا (المتنبى) لا يقول الشعر الا لأمرين اما ان يمدح حاكم ليقبض ثمن مدحه او ان يمدح به نفسه.
- ولكنه يحب (سيف الدولة) حقا يا أمير ف(المتنبى) لم يمدح احدا فى شعره بصدق كما مدح (سيف الدولة).
-اعلم ولكن غروره وصل الى مرحلة لا يمكن السكوت عنها الا تعلم انه وصف (خولة) شقيقة (سيف الدولة) بعد موتها فى قصيدته التى رثاها بها.
فتمتمت ناظرا للارض:
-اعلم ذلك.
فأكمل (ابى فراس):
-انه لم يكتف بان (سيف الدولة) قد ميزه عن باقى الشعراء وسمح له ان يقول الشعر وهو جالس وليس واقفا كباقى الشعراء بالاضافة الى الهبات التى اعطاها له كما ان (المتنبى) يرى نفسه افضل من باقى الشعراء مجتمعين.
فأندفعت قائلا:
-ولكنه عبقرى يا سيدى ولايوجد مثله فى الشعر فى هذا العصر.
فالتفت الى بسرعة ونظر لى نظرة نارية فأدركت حقا ان الرجل يشعر بالغيرة من التفوق الشعرى (للمتنبى) فصمت بعد ان ادركت الخطأ الذى وقعت فيه فقلت محاولا تغيير دفة الحديث:
-دعنا من هذا يا سيدى وحدثنى عن نشأتك؟
فقال متجهما-وقد ادركت انه مازال غاضبا من وقع كلامى-:
-ولدت بالموصل وقتل ابى من ابن اخيه حين كان عمرى الثالثة او الرابعة وعشت بكنف ابن عمى (سيف الدولة) فى (حلب) وتدربت على الفروسية وتعملت الادب والشعر من العلماء والادباء لاصبح شاعر وفارس بنى حمدان.
فقلت صادقا ودون نفاق محاولا ترك انطباع جيد لدى الرجل:
-طبعا ومن ينكر شجاعتك فقد اصبحت كما يقول التاريخ احد اهم الفرسان الذين واجهوا الروم وحاربتهم ببسالة متناهية اما فى مجال الشعر فمازالت قصائدك الى الان خالدة فى تاريخ الشعر.
فبدأ راضيا عما قلت فأكملت:
-الاتعلم ان سيدة الغناء العربى وكوكب الشرق (ام كلثوم) قد تغنت بقصيدتك الرائعة (اراك عصى الدمع) ولكنها استبدلت الجزء الذى تقول فيه (بلى انا مشتاق) بعبارة (نعم انا مشتاق) حتى تصبح اسهل على وقع المستمع وتم تجسيد شخصيتك من خلال وحش الشاشة الفنان (فريد شوقى) فى فيلم (فارس بنى حمدان).
فأبتسم (ابى فراس) لهذا الكلام وسالنى باهتمام:
-أتحفظ شيئا من اشعارى؟
- طبعا.
- فلتقل لى بعضا مما تحفظ.
- سأقول احد اكثر الابيات التى احبها لك:
تسألنى من انت؟ وهى عليمة وهل بفتى مثلى على حال نكر.
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلك.فقالت ايهم فهم كثر؟
فضحك (ابى فراس) وقال كأنه يقول لنفسه:
-احسنت.
وكنا قد وصلنا لبلاط (سيف الدولة) فأعترضنى الحراس فى ريبة فأشار لهم (ابى فراس) ليدعونى امر معه ودخلنا الى (سيف الدولة) وبعد لحظات دخل (المتنبى)
ونظر (المتنبى) و(ابى فراس) الى بعضهما قرأت فيها حديثا طويلا قرات عينى (ابى فراس) تقول (للمتنبى):
-انك تظن نفسك افضل شعراء عصرك انك فى مكانة لا تستحقها.
فكانت نظرة المتنبى (لابى فراس) قائلة:
-لقب الامير الذى لديك هو من رفع شعرك الى الاعلى فان لم تكن اميرا لاعرض الكل عن شعرك.
فدخل (المتنبى) مباشرة على –سيف الدولة- وبدا يقول الشعر فى مدح (سيف الدولة الحمدانى) حتى وصل الى بيت قال فيه:
- يا أعدل الناس إلا في معاملتي      فيك الخصام وأنت الخصم و الحكم.
هنا لم يستطع (ابى فراس) ان يسكت وقال:
-ان هذا المعنى قد قاله (دعبل) فى قصيدته وانت مسختها فقد قال:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت    عيني دموعا و أنت الخصم و الحكم.
فأكمل (المتنبى) متجاهلا (ابى فراس) حتى مدح نفسه قائلا نكاية فى (ابى فراس):
-  انا الذى نظر الاعمى الى ادبى            واسمعت كلماتى من به صمم
-فالخيل والليل والبيداء تعرفنى                والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لم يتمالك (ابى فراس) نفسه وقال:
-انت تمدح نفسك بهذا الكلام فما تبقى تمدح به الامير )سيف الدولة).
واكمل (المتنبى) فى مدح نفسه ومدح (سيف الدولة) بينما يقف له (ابى فراس) بالمرصاد ليقول انه اخذ معنى الاشعار من اشعار سابقة حتى انتهت تلك الامسية الشعرية بين الاثنين فخرج (ابى فراس) غاضبا ولحقت به فقلت محاولا تهدئته:
-فى عصرنا ستصبح انت و(المتنبى) اقطابا عظاما فى تاريخ الشعر.
فتسائل:
-ومن منا سيفضله الشعراء والادباء والنقاد على الاخر؟
فأخذت نفسا وقلت وقد تعلمت الدرس والا اقول له ارائى صراحة:
-سيختلف المفكرين والادباء والشعراء بينهم فيميل بعضهم لك والبعض الاخر له.
فنظر لى فى شك فقلت فورا:
-مثلا عندنا عميد الادب العربى (د.طه حسين) هاجم (المتنبى) بشدة ووصفه بانه شاعر عادى جدا.
فتهللت اسارير (ابى فراس) ولكنى لم اقل له رايى صراحة انى اختلف مع (د.طه حسين) فقد هاجم (المتنبى) بقسوة شديدة وظلمه بنقد لم استسيغه ولم اقل له ان كاتبا كبيرا مثل (الطيب صالح) قد اشاد ب(المتنبى) بشدة ولم اعبر عن رايى بان (المتنبى) افضل من (ابى فراس) شعرا فأبتلعت رأيى دون ان اقوله قبل ان يسألنى:
-وماذا قالوا عنى؟
-قال الصاحب بن عباد وهو من عصرك (بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك، ويعني بدأ الشعر بامرؤ القيس وختم بك)، كما ان الشاعر السورى فى عصرنا (عمر ابو ريشة) قد فضلك على (المتنبى).
ولم ارد ان اقول عن الغالبية العظمى الذين يفضلون (المتنبى) عليه واقصد هنا الافضلية الشعرية وحدها دون التطرق للشخصية ،وصحبت بعدها (ابى فراس) فى حروبه ضد الروم فوجدته فعلا شجاعا مقداما حتى خانه حظه وسقط فى الاسر وبقيت معه فى اسره وتوقع الرجل ان يسارع ابن عمه (سيف الدولة) بافتدائه ولكنه لم يفعل فأصيب الرجل بالحزن والهم وقال اجمل اشعاره فى الاسر والتى عرفت ب(الروميات) فجلست معه وسمعته يقول كأنه يخاطب ابن عمه:
-بمن يثق الناس فيما ينوبه            ومن اين للحر الكريم صحاب؟
فقلت له مواسيا:
-صبرا جميلا يا (ابى فراس).
-ما يحزنى هو حزن امى ولولا خوفى من موتها كمدا لما فرق معى شىء.
فقال واحدة من اجمل ابياته:
-لولا العجوز بـمنبجٍ           ما خفت اسباب المنية
-ولكان لى عما سالت          من فدا نفسى ابيه
ومرت علينا السنون ومازال (ابو فراس) يئن من الاسر ويقول:
-مصابى جليل والعزاء جميل               وظنى بان الله سوف يديل
-جراح واسر واشتياق وغربة              اهمك؟ انى بعدها لحمول
قضيت معه فى الاسر ثلاث سنوات كاملة حتى قام (سيف الدولة) بافتدائنا ولكن والدة (ابى فراس) توفت قبل عودتنا حزنا على ابنها، ولم يكد يمر عام على عودتنا
من الاسر حتى توفى (سيف الدولة) لتقوم الفتنة ويحاول (قرعويه) ان يستحوذ لنفسه على السلطة باسم سيده (ابو المعالى) ليدخل (ابو فراس) مدينة(حمص) ويقوم بمحاربة (قرعويه) وفى المعركة اصيب (ابى فراس) اصابة بالغة وانتصر جيش (قرعويه) وقبل وفاته قال قصيدته الجميلة التى يرثى فيها نفسه واوصانى ان انقلها لابنته فأسندت راسه على كتفى وقال:
-ابنيتى لا تحزنى         كل الانام الى ذهاب
-ابنيتى صبرا جميلا      للجليل من مصاب
-نوحى على بحسرة       من خلف سترك والحجاب
-قولى اذا ناديتنى          وعييت عن رد الجواب
-زين الشباب ابو فراس    لم يمتع بالشباب.
ومات بعدها (ابى فراس الحمدانى) شاعر وامير وفارس –بنى حمدان- دون ان يتم الاربعين من عمره، لتتساقط الدموع من عيناى بعدما اقتربت تلك المسافة منه، لانقل الى ابنته اخر اشعاره التى رثا فيها نفسه قبل ان اعود الى عصرى واطالع من جديد وبنظرة مختلفة ديوان الشاعر والفارس والامير (ابى فراس الحمدانى).
تمت
المصادر التاريخية للقصة:
1-ديوان ابى فراس الحمدانى
2- ويكيبديا
3- كتاب (مع المتنبى) د.طه حسين
4-كتاب (عصر ابى فراس الحمدانى) د.يوسف بكار



     
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق